الفصل الأول: في بيان معنى الرَّحِمْ طباعة
آل الكرباسي - باب الأول: في معنى الرحم وأحكام الصلة والقطع
الإثنين, 18 نيسان/أبريل 2011 09:44

الفصل الأول:

في بيان معنى الرَّحِمْ

إعلم أن الشارع المقدّس تصرّف في بعض مفردات اللغة العربية، وابتكر ووضع معاني أخرى في مقابل المعاني اللغوية لتلك المفردات؛ مثـل مفردة «الصلاة» التي تعني في اللغة «الدعاء» فاستعملها الشارع في الأركان الخاصة المعروفة على سبيل المجاز مع التناسب، حتى صارت لها حقيقة ثانوية بالمعنى الثاني، فيتبادر الى الذهـن أثـناء إطلاق تلك المفردة وحين استعمالها، فيما هجر معناها اللغوي الأصلي. وكذلك ينطبق الأمر على مفردة «الزكاة» التي تعني في اللغة «النمو»، ولكن الشارع استخدمها بمعنى المقدار المستخرج من المال، الى غيرها من المفردات الأخرى.

ولم يتصرف الشارع المقدس في المعنى اللغوي لبعض المفردات الأخرى، لكنه أضاف بعض الخصوصيات اليها، مثل مفردة «النكاح» و«البيع» وغيرهما.

وثمّة مفردات أخرى لم يتصرّف فيها في الأساس، وأبقاها على معناها اللغوي، ولم يُضِفْ اليها كيفـية أخرى، ومن هذه المفردات، مفردة «الـرَّحِمْ» التي وردت في اللغة بمعنيين، الأولى: الجهاز العضوي الموجود في جسم المرأة، والذي ينمو ويترعرع فيه الطفل، والثانـية بمعنى الأهل والأقرباء(1).

قال الراغب الإصفهاني: «الرَّحِم، رحم المرأة، ومنه استُعير الرَّحِم للقرابة لكونهم خارجين من رَحِمٍ واحدة». ولما لم يرد من قبل الشارع المقدس نصٌّ في تقرير وتحديد معنى الرّحم، لذلك فقد اختلف العلماء الأعلام فيما بينهم حول معنى الرّحم التي تجب صلتها ويحرم قطعها ـ بمعنى مدى شموليتها ـ.

فقد رأى بعضهم أن الرّحم عبارة عن: «أقرباء المرء، مثل أبيه وأمه وأجداده وما عَلَوْا، وأولاده وما نزلوا، وما يتصل بهذين الطرفين، من الاخوة والأخوات وأولادهم وأعمامهـم وعماتهم» ـ باضافة الأخوال والخالات ـ.

ورأى بعض آخر أن: «الرّحم والقرابة هما النسب والصّلة بين شخصين وثيقي الصّلة ببعضهما البعض، تجمع بينهما رَحِمٌ واحدة».

ويرى بعض العامّة أن: «الرحم التي تجب صلتها، هي الرحم التي تربط بين شخصين، بحيث إذا كان أحدهما ذكراً، لم يَجُزْ زواجه من الثاني، ولذلك فلا يدخل في الرّحم أبناء العم والعمّة والخال والخالة». ولا قيمة لهذا الكلام.

وذهب البعض الآخر الى أن: «الرّحم التي تعتبر صلتها واجبة، تشمل كلّ ذي رَحِمْ له قرابة مع الشخص، سواءً كان مَحْرَماً أو غير مَحْرَمْ» وإن كان بعيداً. وقد اعتبر العلامة المجلسي (رحمه الله) هذا القول أقرب الى الصواب، شريطة أن يكون أولئك الأشخاص معدودين عُرْفاً من أقارب الشخص المعنيّ. وقال الشهيد الثاني قٌدِّسَ سرُّهُ: «اختلف الأصحاب في أن القرابة مَن هم ؟، لعدم النَّص الوارد في تحقيقه، فالأكثر أحالوه على العُرف وهم المعروفون بنسبه عادة، سواء في ذلك الوارث وغيره» (2) .

وقال الشهيد الأول في كتابه القواعد ما مجمله: «كل رحم يوصل على الترغيب في صلة الأرحام يقع الكلام حوله من عدة جهات:

الجهة الأولى: ما الرحم ؟. الظاهر إنه المعروف بنسبه وإن بَعُد، وإن كان بعضه آكد من بعض، ذكراً كان أو أنثى.

الجهة الثانية: ما هي الصّلة التي يخرج بها فاعلها عن القطيعة؟

والجواب: المرجع في ذلك الى العرف، لأنه ليس له حقيقة شرعية ولا لغوية، وهو يختلف باختلاف العادات، وبُعد المنازل وقربها.

الجهة الثالثة: بما الصلة ـ أي بأيّ فعل تحصل الصلة ـ؟

والجواب: قوله(ص) «بلّوا (3) أرحامكم ولو بالسلام» (4) . وفيه تنبيه على أن السلام صلة. ولا ريب إن مع فقر بعض الأرحام و فالعمودان منهم، تجب صلتهم بالمال، ولكن صلة المال تستحـب لباقي الأقارب، وتتأكد في الوارث (5) .

الجهة الرابعة: هل الصلة واجبة أم مستحبة؟

والجواب: إنها تـنقسم الى الواجب، وهو ما يخرج به عن القطـيعة، فان قطيعة الرحـم معصية، بل هي من الكبائر، والمستحب ما زاد على ذلك.

قال العلاّمة المجلسي في بحار الأنوار: «وللشيخ قولٌ بانصرافه الى مَن يتقرّب إليه إلى آخر أبٍ أو أُمٍّ في الإسلام، ولا يرتقي إلى آباء الشرك وإنْ عُرفوا بقرابته عُرْفاً، لقوله(ص): «قطع الإسلامُ أرحامَ الجاهليةِ»، وقوله تعالى لنوحٍ عن ابنه: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} (6) .


(1) من المعلوم أن المعنى الثاني مشتق من المعنى الأول مجازاً ولو بأدنى مناسبة ـ نجل المؤلف.

(2) بحار الأنوار: 71/109.

(3) بلّ الرحم: وصْـلَهُ.

(4) بحار الأنوار: 71/110 باختزال.

(5) بحار الأنوار 71/111 باختزال.

(6) بحار الأنوار: 71/109، سورة هود، الآية: 46